مراد الذي أصبح طعامًا للغربان
يرتدي يحيى سُبْحة حول عنقه ألبسها إياه شقيقه الأصغر مراد، قبل أن يتحول الأخير إلى أشلاء خلال لحظات تبدو ليحيى وكأنها أطول من أعوامه الخمسة عشر.
مراد، ذو التسع سنوات، كان أكثر إخوته شغفًا في جمع العلب البلاستيكية والأشياء التي يتركها الناس خلفهم، وقد جمع من الشاطئ في ذلك اليوم المشؤوم الكثيرَ من التذكارات الغريبة.
يتذكر يحيى هذه الأحداث ويتحدث عنها وهو يغمض عينيه بشدة، ويبدو كأنه يستعيد لحظات انفجار اللغم في جسد أخيه الصغير.
ظل خط الكثيب في مدينة الحُديدة مغلقًا لأكثر من ثلاثة أعوام بعد الهجوم الذي شنّته قوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات مع القوات المشتركة في العام 2018، وبعد الانسحاب الأخير للقوات المشتركة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، تم فتح خطوط التماس التي كانت مشتعلة، ومن بينها جزءٌ من شاطئ الحُديدة، المعروف بخط الكثيب، والذي ما زال محاطًا بلافتات تحذيرية بوجود ألغام. ذهب يحيى، في يوم الأحد 17 يناير/ كانون الثاني 2022، إلى البحر بتخطيطٍ من أخيه مراد، الذي تبعوه لإصراره على السباحة والعمل معًا في ذات اليوم.
اتجه مراد إلى عربته التي يجرها حمار حاملًا الأشياء التي جمعها مع شقيقه يحيى بعد أن ألبس الأخير سُبْحة سوداء وجدها على الشاطئ، قائلًا له: “هذه لك”، ثم غادر باتجاه هيثم الذي ينتظرهم خلف العربة، ومنحه بقية العلب والتذكارات، وأخبره أنه سيوزع اليوم الكثير من الأشياء التي وجدها في الشاطئ على بقية أشقائه في المنزل.
عاد مراد باتجاه شقيقه يحيى الذي كان يخطو نحو شقيقيه للعودة إلى المنزل. يقول يحيى: “سألت مراد: لماذا عدت؟ لكنه كان يجري بسرعة وكأنه نسي شيئًا مهمًّا”.
يغمض يحيى عينيه وهو يستعيد لحظة الانفجار التي لم يستوعبها بسهولة. يكمل حديثه بقلق وكأنه يستحضر كل شيء مرة أخرى أمامه: “حين التفتّ رأيت يد مراد، فقط يده. صرختُ وجريت بالاتجاه المعاكس، ولم أستطع العودة من هناك إلا بمساعدة أفراد الأمن الذين جاؤوا بعد سماع الانفجار، وعرفت فيما بعد أن هناك لافتة تحذير لم ننتبه لها، ولم يخبرنا أحد عنها”.
“حين وصلتُ إلى المكان كانت هناك سيارةُ إسعافٍ في الشاطئ، وتجمُّعُ غربان كثيف، فهمت فيما بعد أنه يلتقط لحم ابني”، بهذه العبارة الصادمة بدأ والد مراد حديثه، وتابع كلماته وهو يتأكد من عدم وجود يحيى وهيثم بجواره: “حاول أفراد الأمن منعي من الدخول، لكني كنت أريد جمع مراد مرة أخرى. رأس بلا عينين وصدر أجوف وساق ويد وبعض من أحشائه. هذا ما تبقى من ابني، ولم يرَ ذلك أحد غيري من عائلتي”.
يشعر والد الأطفال الثلاثة، أحمد عمر (50 سنة)، بالحزن والذنب تجاه ما حصل لأولاده. يتذكر ما حدث بعد تلقّيه اتصالًا غريبًا يخبره أن أحد أطفاله مريض، وأثناء خروجه كان يفكر هل فقد أحدهم فقط أم جميعهم.
أطفال أحمد الثلاثة هم من يساعدونه في توفير احتياجات المنزل، نظير ما يجمعونه من علب، ويقومون ببيعه مقابل 2000 ريال يمني؛ أي ما يعادل 3 دولارات تقريبًا.
عَمَلُ أحمد في الحراج لم يعد مجديًا كما كان قبل الحرب، التي نهشت أجساد اليمنيين من كل الاتجاهات وتركت علاماتها في عجزهم عن توفير الحياة لأطفالهم- الحياة فقط بدون تذييلها بالكريمة.
ذهب الصغار الثلاثة إلى شاطئ البحر للعمل والمرح في آنٍ واحد، لكن الحرب أفشلت خطتهم، ومنحتهم ذاكرةً بها الكثيرُ من الأشلاء، ومِسْبَحة سوداء.