قتلت طفلان وأصابت آخر
الشمس ترسل اشعتها الذهبية على قرية ملاحا التابعة لمديرية مجزر (شمال غرب محافظة مأرب) مودعةً يومً حزينًا على سكان القرية. النساء يقمن بحصاد الذرة بالحقول الزراعية على بعد ثلاثة كيلو مترات غرب المنازل، يفصل بينهما وادي بعرض واحد كيلو متر تقريبا.
أشجار الأثل والسدر تنتشر في المكان، والأطفال يقومون برعي الأغنام بعد الظهيرة، ثلاثة منهم في حقل (النيسة) الذي يعرفه الأهالي. تعتبر الأغنام أحد مصادر الدخل للأهالي خلال زمن الحرب، في هذه المديرية.
الرجال يمضغون القات في المنازل شرق الحقول الزراعية، عندما هز انفجار المكان، وارتفعت سحابة غبار للأعلى في المرعى. صعد الأهالي أسطح منازلهم لتحديد مكان الانفجار، وأيديهم على قلوبهم. يا ترى من يكون الضحية هذه المرة، فالألغام وبقايا الأسلحة تنتشر في مناطق المواجهات بمحيط القرية، فخلال العام 2016 وحتى العام 2020، جرت معارك شرسة بين القوات الحكومية وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وانتهت بسيطرة الأخيرة على المديرية في يناير/ كانون الأول 2020، لكن المدنيين هم من يدفع الضريبة في النهاية.
وكان ثلاثة أطفال، هم صقر عبد الولي (ثمان سنوات) وغازي سنان (12 سنة) وقائد خيمة (13 سنة)، قد خرجوا عند حوالي الـ04:00 عصرًا بتاريخ 5 أكتوبر2022 لرعي الأغنام في موقع سابق كان يتمركز فيه عناصر جماعة أنصار الله المسلحة غرب القرية. وأثناء جلوسهم تحت شجرة بالمكان، لاحظوا جسمًا كرويًا مدفونًا في الأرض.
سرعان ما أخرجوه وبدأوا باللعب، ثم نزعوا حلقة كانت مثبتة في الكرة الحديدية الصغيرة، فبدأت تصدر وشيشًا أقرب إلى الصفير.
تنبه الطفل صقر للصوت، فانسحب للخلف على مسافة ثلاثة أمتار، لأنه كان قد سمع مرةً في الطابور الصباحي لمدرسته من أحد المتطوعين درسًا توعويًا عن خطر الألغام، وأن الأخيرة تصدر صوتًا قبل انفجارها، فاحتفظ بالمعلومة. لكن نظيره قائد أصر على أنها معدن وبدأ مع غازي يقربانها من أذنيهما ليستمعا إلى صوتها، فانفجرت محدثة دويًا في المكان.
قُتل الطفلان على الفور، وتناثرت أجسادهما، بينما كان صقر الأقل ضررًا، فانطلق إلى القرية طلبًا للإسعاف والدماء تسيل من وجهه وقدميه، وهناك أخبر الأهالي بما جرى. قام بعض الموجودين بإطلاق النار من أسلحة رشاشة جوًا لتنبيه الأهالي بأن هناك كارثة وقعت ويجب التجمع، ومن ثم انطلقوا إلى مكان الانفجار.
تجمع الأهالي في المكان، وتعالت أصوات البكاء والانتحاب، من قبل أهالي الطفلين القتيلين. إنه يوم حزين لن تنساه قرية ملاحا إلى الأبد.
يقول أحد شهود العيان (30 سنة):
كنت حينها مُخزّن (أمضغ القات) في منزلي (على مسافة اثنين كيلو متر باتجاه الشرق)، عندما سمعت صوت انفجارًا قويًا آتيًا من جهة الغرب حيث المراعي.
خرجت لأشاهد، كنت أعلم أن الطفل صقر خرج لرعي الأغنام هناك في الوادي. هذا الوادي يأتي منه السيل القادم من جبل يام (على بعد 20 كيلو متر جنوب القرية وملاصق لفرضة نهم)، وأحيانًا يقوم السيل بجرف ألغام تلك المناطق ويسحبها إلى مناطقنا.
ظننت أن لغمًا انفجر بالأطفال الرعاة. كنت خائف وركضت. كان الطفل صقر قد نهض من مكانه بالرغم من أنه جريح، وتوجّه إلى أقرب منزل في المنطقة (يبعد حوالي كيلو متر واحد من الموقع)، وهناك وجده أحد المسعفين فحمله بسيارته، وأخبره أن هناك طفلين آخرين مرميين في مكان الانفجار.
وجدنا الطفلين قائد وغازي مرميين على الأرض، بأجساد متقطّعة إلى أشلاء، إذ توفى الطفل عبد الله في الحال، فيما غازي لا يزال يتلعثم ويتمتم بكلمات لا يفهمها الحاضرون. كان منظرهما يدمي القلب، وصورهما لا تزال محفورة في ذاكرتي إلى أن أموت، حملناهما في بطانيات.
شاهد آخر يقول إن والدة الطفل قائد امرأة مطلقة لديها طفلان، قائد وشقيقته الأصغر منه. انفصلت عن زوجها قبل سنوات وقام الأب بأخذ طفلته لتعيش معه وأسرته الجديدة بقرية أخرى، وتبقّى قائد عند والدته.
عندما وصلها خبر الانفجار انطلقت مسرعة نحو المكان تبحث عن ابنها، ولكنها سقطت في الطريق وأغمي عليها من هول الفاجعة، فتم اسعافها مع ابنها إلى مستشفى الحزم العام في الجوف (على مسافة 25 كيلو متر) ولكنها لم تستيقظ من الغيوبة فتم تحويلها إلى أحد مستشفيات صنعاء لتلقي عناية فائقة لمدة أسبوع حتى عاد لها وعيها.
أما الطفل غازي فرج فودّع الحياة قبل دخولهم مستشفى الحزم، مدينة الحزم، وأودع جثمانه وجثمان صديقه الصغير قائد ثلاجة الموتى هناك، ليتم دفنهم في اليوم الخامس في مقبرة القرية، في موكب جنائزي حضرة أهالي القرى المجاورة.
أُسعف الطفل صقر إلى صنعاء بصورة عاجلة، بعد تلقيه اسعافات أولية في مستشفى الحزم العام بمحافظة الجوف لتبدأ عائلته فصول جديدة من المعاناة من مستشفى إلى آخر. وكان صقر قد أصيب بشظية في العين اليسرى أعلى الحاجب واحترقت ثيابه، إلى جانب حروق في ركبة الرجل اليسرى، وفقد السمع بشكل كلي إلى جانب شظية صغيرة في جسده.